10/30/2011

ظلال



يحكى أن هناك رجل منحته الحياة كل مايرغب .. زوجة صالحة وولدان .. صبي وبنت.. وتجارة ناجحة جداً .. و تقوى وصلاح.. يحسن على الفقراء .. ويساعد الاغنياء .. يخاف الله .. ويعمل صالحاً .


بذل اغلب حياته من اجل مكارم الاخلاق . كان هدفه في الحياة أن يرى ابنيه يكبران أمام عينيه بعد أن غيب الموت زوجته . وكان له ما أراد. كبر ابنيه وهما يسيران على خطاه .. ناجحان .. مميزان .. الفتاة كانها زهرة في اول تفتحها .. جميلة .. مؤدبة .. وتسلب النظر .. الصبي .. ناجح جدا ووسيم جداً .. و مؤدب جداً.


كان الرجل في كل يوم يتضرع إلى الله أن يديم عليه هذه السعادة . وأن يمن على ولديه بالصحة والعافية.


لكن


ودائما ما تقتحم "لكن" هذه عالمنا الهادئ لتحيله إلى علامات استفهام كبيرة نعجز معها عن إيجاد التفسيرات المناسبة التي تبقينا متمسكين بقناعاتنا وإيماننا .. وهذا ما حصل لرجلنا هنا .


تغيرت حياته على نحو مفاجئ بعد أن تعرضت ابنته/ زهرته لمرض خطير ما برح أن أودى بحياتها وهي في بداية تفتحها ونضوجها.


ماتت ابنته متأثرة بمرض عضال .. رحلت وأخذت معها جزء من قلبه والكثير من إيمانه.


لم يكن يفهم لماذا تموت ابنته رغم إيمانه بأن الموت حق على الجميع.. وانه حقيقة لا مفر منها أبداً .. لكنه كان يتمنى أن يطيل الله بعمرها لأنه يحبها كثيرا ولأنها تسبغ حياته بالون السعادة كلما لمح محياها الباسم.


ظل "رجلنا" سارحاً في تساؤلاته وحزنه زمناً طويلاً دون أن يصل إلى تفسير لماذا توفيت ابنته التي يحبها كثيرا.


وفي يوم من سائر أيام الحياة المستمرة منذ الأزل . وفيما كان الرجل الذي هرم كثيرا منذ وفاة ابنته يكابد حزنا عميقا عجز عن تجاوزه .. فجعه خبر مفاجئ .. "ولده تعرض لحادث سير وهو في المستشفى بين الحياة والموت".


أسرع الرجل يسابق فجيعته وقد زاغت نظرته ومادت الأرض تحت قدميه واختنقت أنفاسه وعلى وجيب قلبه ... كان الصراع في داخله هادرا .. حزن وغضب و سخط و يأس لا حدود لهما.


وما أن دخل إلى المستشفى حتى أحس بالغضب يسيطر عليه دفعة واحدة .. كان ناقما على كل شيء .. راح يصرخ بحدة وفزع . " أين هو" .. "أين هو " ، " إن حدث لولدي مكروه لن أسامح أحداً ، سأقتلكم جميعا".


وفي خضم زوبعته التي أحدثها في المستشفى كانت روح ولده ترتفع إلى مستقرها الأبدي.


حين علم بالفاجعة .. تاهت نظراته في الوجوه التي تطالعه بشفقة كبيرة، كان غضبه يصعد ببطء من أعماق أعماقه حتى قبض على خناقه فانفجر في الجميع و راح يعدو وسط الممرات وهو يصرخ " لن أسامحكم" .. "سأقتلكم جميعاً" .. ثم وهن فجأة وخارت قواه وسقط وهو يرغي ويزبد.


عمل الأطباء كل ما يلزم .. حجزوه في المستشفى حتى وثب إلى رشده من جديد.


نزلت عليه سكينة ساخطة.. صمت دون أي كلمة .. يطالع في الوجوه وهو صامت .. لا يتحدث إلا قليلاً جدا.


اعتزل الحياة وراح يطالع السماء.. في كل يوم يجلس أمام نافذته المطلة على الغروب ويتساءل بشعور غامض "لماذا؟"


لماذا حدث ما حدث. "لم أخطئ بشيء" .. "لم اقصر بكل ما تريد يوماً " .. "لم تتعلق نفسي بشيء طوال حياتي سواهما .. لماذا تأخذها لماذا .. فقط لو تجيب .. فقط لو أعلم لماذا".


كانت تساؤلاته تؤلمه .. وحيرته ليس لها نهاية. طالت حياته كثيراً .. منذ أن فقد ذلك النور في قلبه .. أصبحت الأيام باهته لا طعم لها، والحياة مقيتة لا تحمل سوى الظلام .. ظلام ابدي ممتد أمام عينيه.


حاول أن يتجرد من حزنه أن يقترب إلى النور من جديد لكن قلبه ظل قاسياً مثل الصخر.. فقد ذلك الندى الإنساني .. وتلك الروح المتسامحة المتقبلة لكل شيء تمنحه الحياة.


تساقطت سنين عمره عام بعد أخر .. دون أن يصله الموت الذي أقتطف سبب حياته. خيل إليه أن عمره سيمتد إلى مالا نهاية إذا لم يلين قلبه.. لكن كيف ولا تفسير في الأفق. حاصرته الحياة من كل جانب فلم يستطع المقاومة .. اسلم أمره للمجهول دون أن يكف عن مطالعة السماء في كل يوم وهو يتساءل "لماذا".

1 comment:

Nawel said...

السلام عليكم

إنا لله وإنا إليه راجعون

فعلا هو مصاب جلل لا يخفف عنه إلا إيمان عميق بقضاء الله وقدره وأن الدنيا ما هي إلا دار فناء