الشمس تنعكس بنورها الواهن على عيني المصابتين
بالاعياء جراء متابعة الشاشة طوال ساعات العمل. كنت في طريقي إلى المنزل. الشوارع
نظيفة وغير مزدحمة، والمباني متناسقة، والمركبات جديدة، والمنازل تعكس وفرة
اقتصادية وبحبوحة في العيش.
كنت افكر في وجبة الغداء التي علي أن
اتناولها حتى أتفادى وهن الصحة العام الذي اعاني منه منذ فترة بسبب فقداني الشهية وعدم
رغبتي في تناول الأكل الصحي.
أخبرتني والدتي أنها اعدت لي الأرز مع الدجاج
إلى جانب طبق كبير من السلطة الخضراء. :" مسكينة أمي تبذل كل مافي وسعها من
أجل أن اتغذى جيداً وأسمن قليلاً عليّ أحظى بعريس قبل ان يفوتني القطار".
تباً لكل القطارات. في كل لحظة أتساءل هل انا
بالفعل أعاني من الأكتئاب هل أنا مريضة؟ .. هل علي الذهاب إلى طبيب نفسي لأني لا
أجد أي معنى في هذه الحياة وليس لدي رغبة لأي شيء.
جارات والدتي يقلن لها أنني
"بطرانة" ولا استحق هذه الحياة المريحة التي تمنحني كل ما يتمناه غيري
دون ان أبذل اي مجهود. افكر في كلامهن كثيراً ثم أقول :"ربما".
كل ما افكر به والدتي وقلقها المستمر عليّ..
وهذا الخاطر رغم انه يسبب لي المتاعب كوني لا أستطيع أن اعدها بشيء إلا انه يشكل
لدي سببا للحياة.. وأحيانا اجد هذه الفكرة شديدة السخرية .. ما اريد أن اتخلص منه
(خوف والدتي علي) هو الشيء الوحيد الذي يدفعني إلى التفكير بجدية في هذا العالم
الكبير المليء بالخرافات والأغبياء.
تناولت كل ما استطيع أن اتناوله لإرضاء
والدتي ثم ارتميت على سريري في غرفتي الواسعة أحدق في السقف وافكر كيف أستطيع أن
أجد شيء يستحق الحياة.
غفوت قليلاً ثم استيقظت متوعكة وأشعر بالثقل
في اطرافي والحرارة في معدتي. تناولت "الشاي الأخضر" الذي اعدته السيدة
التي تعمل لدينا في المنزل، واستلقيت على الاريكة اتابع فيلم "السعي وراء
السعادة" من بطولة ويل سميث.
أستمتعت كثيراً بالفيلم وشعرت بأنه يرسل لي
إشارة ما، لكن كالعادة سرعان ما عاد الاحباط والغثيان يسيطران عليّ في وسط ليل
طويل خالي من البشر ومتفرد بالهواجس والافكار الشريرة.
هذه الليالي كثيراً ما اكابد فيها شعوري
باللاجدوى واتساءل لماذا لا اقدم على انهاء حياتي وارتاح من هذه الورطة التي ليس
لي فيها اي يدا، لكنني دائماً لا أستطيع أن اتوصل لهذا القرار ولا حتى للتفكير به
بشكل جدي، وعندما ابحث عن الأسباب لا أجد مبررا مقنعا سوى أنني لست جدية في شعوري
هذا وربما يكون كل ما اشعر به منعكس من عدم قدرتي على تحقيق ذاتي، او من شح الحرية
المتعلقة بالاختيارات الشخصية في هذه البقعة من الكرة الأرضية ما يجعلني ارى
الحياة صغيرة جداً ومفرغة من القدرة على جذب الاهتمام.
أوووووه ... هذا النوع من الأفكار هو العذاب
الحقيقي. اين أجد المنفذ للعالم الخالي من العقل. ليتني أهتدي لطريقه وانجو بنفسي.
في اليوم التالي ذهبت إلى مستشفى متخصص على
حسابي الخاص بناء على إلحاح والدتي للتأكد من أنني لا أعاني من أي مرض. أجريت
العديد من الفحوصات والتحاليل، ونقدتهم مبلغاً محترماً. أخبروني انه علي أن أأتي لاحقاً
لاكمال الفحوصات والتحاليل، لكنني استثقلت المهمة وصرفت النظر عن الاستمرار في
مراجعتهم.
بعدها بأسبوع تقريباً وصلني إيميل من
المستشفى يخبروني بانهم يشكون بأني اعاني من مرض التصلب اللويحي المتعدد المعروف
بـ "أم اس" وعلي أن اراجعهم فورا لأتمام الفحوصات لأنه من المستحيل
التأكد من إصابتي بالمرض دون هذه التحاليل المتقدمة.
عندما قرأت الإيميل اصابتني حالة من الرعب
وشعرت بأطرافي تتنمل وبالأرض تميد تحت قدمي. :"أنني اعاني من هذا المرض لا
محالة" .. :"هل سأموت؟؟" :" لكنني مازلت صغيرة.. لماذا يحصل
لي هذا ؟".
عصفت بي الأفكر إلى عالمها السرمدي وفقدت
الأحساس بالحياة بصورة تامة وشعرت بأنني كنت أعيش في الجنة قبل ذلك الإيميل
الملعون.
تكشفت لي كل الأمور المخفية التي كانت تحجبها
غلالة من الأفكار السوداء عن عيني، تلك اللحظات الذهبية التي انعم بها بالدفء
والامان في غرفتي، حريتي المطلقة في التجول في الاسواق والشراء، سيارتي الجديدة
وموسيقاها الممتعة، كتبي، عالمي الممتد على كل الحياة دون معكرات، عائلتي القريبة
دائمة وعلى رأسها والدتي التي تمدني بكل الاهتمام والحب على مدى الأيام.
كيف غابت عن عيني هذه المتع كلها ؟؟. لماذا
فكرت في لحظة ما أن أتخلى عنها، ما الدافع الحقيقي الذي كان يجعلني بكل هذا السؤم
واللا جدوى.
ترددت كثيراً في الذهاب إلى المستشفى لأن
الخوف زادني تعرق والم أكثر من قبل. وأصبح يقيني الوحيد في هذه الحياة أنني مريضة
بذلك المرض الذي لا اعرف عنه شيء وبأني ساموت لا محالة.
مضى اكثر من اسبوعين على ذلك الإيميل الملعون
دون أن أحسم أمري. كنت اصحو مفزوعة في الليل وأبكي كثيراً :"كيف سأتحمل هذا
المرض؟". وفي يوم حسمت أمري وذهبت وانا أرى الحياة تغيب أمام عيني. أقبلت على
المستشفى كأني اقبل على القبر. أجريت التحاليل والفحوصات التي يريدونها ونقدتهم
مبلغاً أكبر من السابق بكثير. طلبوا مني أن أعود بعد ثلاثة ايام. وفي الموعد كنت
أول الحاضرين هذه المرة لأني كنت أريد أن أدخل في مرحلة المرض بصورة رسمية حتى
أحاول أن اتعود على أجواءه وأعيش سوداويته كما يجب أن يكون.
دخلت إلى الدكتور، كان شاباً وسمياً ويبدو
متأنقاً جداً بربطة عنقه الرمادية وجاكيته الأبيض. تفحص الاوراق التي أمامه ونظر
فيها مطولاً ثم قال لي هكذا بسهولة كبيرة :" الحمد لله، لاتعانين من شيء
خطير، مجرد ضعف عام، فقط تحتاجين إلى الراحة بشكل أكبر والتغذية السليمة بالإضافة
إلى بعض المقويات التي سأصفها لكي الأن". وراح يكتب في الوصفة التي أمامه ثم
ناولني اياها ببساطة متناهية وإبتسامته الجميلة تزين محياه.
خرجت من عنده وانا أشعر بذلك الشيء المشدود
في داخلي يرتخي جداً. كنت أريد أن أاكل. شعرت بجوع شره فأسرعت إلى أول مطعم
يصادفني وطلبت كل ماوقعت عليه عيني.
عندما عدت للبيت كنت مبتسمة. قبلت والدتي و
صعدت إلى غرفتي. تفحصت كل الافلام التي أحتفظ بها ثم أخترت فيلما رومانسيا
"خريف نيويورك" من بطولة "ريتشارد غير". أستمتعت بلحظات من الصفاء والمتعة الندية مدت
قلبي بكل ألوان السرور والغبطة حتى داهمني النعاس فاسلمت له حواسي وأنا مدركة هذه
المرة إلى أين يقود طريق السعادة.