4/19/2013

رقصة الحياة





اغمضت عيناها وراحت تتمايل بجسدها المفرط في اللين على وقع نقرات الطبلة المتناغمة. ابحرت في  فضاء عالم افتراضي تكوّن في خيالها الخصب وتركت لخطواتها معانقة الإيقاع بفطرية بدائية.
مازالت تشعر بعدم قدرتها على الوصول إلى الذروة .. ذروة الرقصة، الحد النهائي من التجلي والانعتاق، المنتهى الاخير لما يمكن أن تصل إليه الروح، كانت تفتقد من يستطيع أن يفهم روحها قبل جسدها، من يفهم معنى الرقصة الحلم التي تنتظرها.

***
كان يحتضن طبلته كما تُحتضن الحبيبة بكل لهفة وشغف، تتراقص أصابعه على جلدها بتناسق نادر، فيتصاعد ايقاع مؤثر يغمرمن يصل إليه على نحو بالغ القدرة و الطغيان.
كلما نظر إلى طبلته شعر برباط وثيق يشده إليها وتفهم أكثر أن في الحياة أسرار لا أحد يمكنه فهم دوافعها، ردد في سره :"هناك أشياء خلقت من أجل إنسان بعينه، وهذا الطبلة ماوجدت إلا لتتراقص عليها أصابعي ، لكن من يقدّر ؟!!".
كان يشعر أن موهبته تذهب أدراج الرياح فلا أحد في هذه البقعة الصغيرة من الأرض يهتم لشخص يجيد النقر على الطبلة بصورة غير مسبوقة.

***
 كانت تضع قناعاً من خلطة جديدة نصحتها بها احدى صديقاتها على وجهها حتى تحافظ على نضارته وبهاءه، استدعتها والدتها لأمر بدا هاما وجديا.
اخبرتها أن "ابن عمها" متقدم لخطبتها وأن والدها لايجد أي مانع في اتمام الزواج ويود أن يعرف رأيها إن كانت موافقة.
طلبت من والدتها مهلة للتفكير. شعرت أن الكثير من المشاعر تتدافع بداخلها بطريقة غريبة، تذكرت والدها الحنون الذي طالما أغدق عليها واخوتها بحنان قل نظيره وسط مجتمع قبلي مغلق كالذي تنتمي إليه.
تذكرت احلام الفتيات في عائلتها ورغبتهن في زوج منفتح ولو قليلاً على العالم الكبير، يعتقهن من أيادي العادات والتقاليد التي تحاوطنهن من كل جانب، ثم غمرها شعور بالسعادة بشكل مفاجئ، لم يلبث إلا قليلا حتى تحول إلى احساس بالخوف، أكتشفت على حين غفلة أنها تحب بيت والدها ولا تود مغادرته، لا تتخيل انها ستترك شقيقاتها وكل هذا الحنان الذي تلقاه من الجميع.
 ثم قفزت فجأة رغبتها في الرقص واحست شعوراً جارفاً بالخجل من هذا الخاطر.
ظلت تفكر في "ابن عمها" الذي لاتعرف عنه الكثير، لكن تذكر شقيقاته مدها بشيء من الراحة والتفاؤل لأنهن صديقاتها المفضلات.
نظرت إلى سقف غرفتها وهي تتحس الخلطة التي جفت على قسمات وجهها الجميل ثم ابتسمت بحياء وخفر وهي تبطن في سريرتها ما قررته.
***

جلس صامتاً في غاية القلق والترقب، لم يعر انتبهاً لأصدقاءه الذين يطالبونه بمشاركتهم العزف والغناء، خصوصاً انه صاحب الاصابع الذهبية التي تلهب حماس حتى الصخر حين تتراقص على الطبلة.
ظل يراقب شاشة هاتفه الجوال دون أن يشارك اصدقاءه نشاطهم وهو في اقصى درجات القلق و الضيق. اضاءات الشاشة بأسم شقيقته الكبرى وخفق قلبه بقوة .. "مبروك ستتزوج قريباً".. أبتسم بارتياح وتأبط طبلته واندس وسط اصدقاءه بنشاط وفرح.

***
كان الوقت مساءً. راح يحدق في الفراغ وسط حالة من الخدر غالبا ماتمره في هذا الوقت من اليوم، شعر برغبة عارمة في النقر على الطبلة لكنه خشى أن تعرف زوجته بالسر الذي اخفاه عنها طوال الشهر الماضي.
دخلت بصينية الشاي وسكبت له فنجان، ارتشف رشفة صغير ثم قال دون مقدمات :" أتحبين أن تستمعي للحن على الطبلة؟"، حركت كلمة الطبلة داخلها وشعرت بشيء يشبة الألهام يدغدغ روحها وقالت بغنج فطري :"لما لا ".
احضر الطبلة بقفزة سريعة وراح ينقر عليها رويداً رويداً لكنه دون أن يشعر بدأ ينفصل عن حالة الوعي ويدخل في تلك الحالة المقدسة التي ترتفع فيها الروح إلى منتهى المتعة، وبالسرعة ذاتها انتقلت هذه الحالة إليها  فنهضت دون إرادة أيضاً وبدأت بالرقصة.
لم يستوعبا غرابة الموقف لأنهما كانا خارج الحالة العادية التي تفرضها شخصيتيهما المحكومتين بالبيئة والواقع، كانا في حالة كاملة من التجرد إلا من رغبة النفس الخالية من أي شائبة.
راحت تتثنى كأن مفاصلها مصنوعة من مطاط، تميل يسارا على وقع نقرة منخفضة ثم تهب إلى الجانب الآخر على نقرة عالية.
تناقلت اصابعه على الطبلة برشاقة واتقان نادرتين واخذه التأثر إلى منتهاه فتفصد العرق على جبينه وهز الانفاعل ملامحه الدقيقة فبدا وجهه كمن يرى الخلاص ويسعى إليه..في حين راحت دموعها ترشح بغزارة مدفوعة بشعور متأجج من العاطفة والشغف.

استمر المشهد برهة من الزمن كانت خارجة من سياق الحياة التي يعرفانها، كانت لحظات من العالم الآخر، عالم الأرواح.. شيء لا يشبه شيئاً .. سر من أسرار الوجود.
 .. تلاقت عيناهما وغام العالم بأكمله.. تراخت اصابعه في الوقت ذاته مع جسدها فتوقفا في اللحظة ذاتها والدموع تقول ما عجزت الكالمات عن قوله.



4/07/2013

الموت على أنغام تشايكوفسكي


مضت ثلاثة أسابيع منذ وصول الخبر.

في الأيام الأولى سمعت الكثير من الناس يتحدثون عن القضاء والقدر ويثرثرون بكلمات لم أعِ منها شيئًا، ثم دخلت في حالة من الشك بكل الثوابات التي دافعت عنها أعوامًا طوالاً أمامه.

كان يسخر مني عندما أتسمّر أمام موسيقى تشايكوفسكي ويضحك كثيراً عندما يراني أنزوي لساعات مع كتاب، لكنه لم يخفِ إعجابه يوماً من طريقة إدارتي لعملنا الخاص؛ لذلك ترك لي كل شيء ومضى يعبث في حياته.

لطالما سألني الكثير من الناس عن سر علاقتي المتينة بشقيقي الوحيد الذي يبدو أمامهم كابني الصغير.. ولا أرد  لأني أنا نفسي لا أفهم طبيعة هذه العلاقة فأنا دئماً  شعرت بأني مسؤول عنه رغم أنه يكبرني بخمسة أعوام.. وكم أقلقتني كثيراً طريقة حياته العبثية، وكم وخزني قلبي عليه لكن لم تكن لديّ حيلة  لثنيه.

مازلت أتذكر لقاءنا الأخير جيدا.

طرحت العمل جانبًا وأدرت جهاز التسجيل في مكتبي على أنغام  تشايكوفسكي وتساءلتُ كيف يستطيع أن يترجم كل هذه المشاعر إلى نغمات، لابد أنه ساحر!، وفي اللحظة ذاتها قطع طرق خفيف على الباب حبل أفكاري، وقبل أن أستعيد نفسي من عالم الموسيقى كانت ضجته المحببة تجوس سماء المكتب.

قال وهو يضحك من أعماقه: "أمازلت تستمع لهذه الموسيقى المملة، كيف تتحمل؟".

ابتسمت له ابتسامة ترحيب وقلت: " شيئان لا أستطيع أن أستغنيَ عنهما أنتَ وهذه الموسيقى".

ضحك بمرح طفولي رغم الشعرات البيضاء الجديدة التي برزت أسفل ذقنه وأخبرني أنه سيغادر اليوم مع مجموعة من الأصدقاء في سفرة سريعة وراح يردد عليّ أسمائهم، ورغم أنه خرج من عندي كالعادة بعد حوار طويل حول مفاهيم الحياة المتناقضة بيني وبينه، إلا أن مشاعر القلق الغريبة التي داهمتني منعت قلبي من الاستمتاع بتشايكوفسكي كما يجب وكان قلبي على حق لأنه عاد من رحلته بتابوت.

قالت التحقيقات أنه قُتل بطعنة نافذة في القلب من أحد أصدقائه في سهرة ليلية، و تم القبض  على الجاني وهو قيد التحقيق. أعرفه جيداً .. ذلك الرجل الرزين الذي جمعتني به مصالح كثيرة، لطالما كان هادئاً لكنني لم أرتح يوماً لنظرة عينيه غير المستقرة.

اليوم استقرت ملامحه بذهني على نحو جعلني أراه حتى في منامي، وخلال الأسابيع الثلاثة الماضية عرفت كل شيء عنه. لم أحتج إلى الكثير من الجهد حتى أحدد هدفي.. لكني لم اشفَ بعد من حالة الصراع التي داهمتني منذ وصول الخبر.

الليل صديق العشاق والقتلة، وأنغامك يا تشايكوفسكي غابت منذ غاب وجهه الطفولي.. حاولت كثيرًا أن أتواصل مع موسيقاه علها تسرّب شيء من ماء الرحمة إلى روحي كما كانت تفعل دائماً، لكن وجهه ظل مثل سكين مغروسة في القلب.

الأن،اصبحت الموسيقى تقودني إلى قرار لابد منه، لا يمكن أن تستقر روحي بعد ذلك اليوم إلا بتحقيق ما أضمرته.

مر النهار جافًا وثقيلًا مثل كل شيء بعده.. وجاء العصر محملاً بشيءٍ قدرِيٍّ لم أتَبيّنه لكنني تركت نفسي تنقاد إليه دون مقاومة. أطفأتُ محرك سيارتي قبالة منزله مثلما أفعل كل يوم ووجهه اللعين بنظراته غير المستقرة لا يبارح مخيلتي.. :"كيف استطاعت يده أن تخترق القلب الذي أحب؟ كيف؟".

خَرَجَتْ من الباب الأمامي للمنزل،الملامح والنظرة غير المستقرة ذاتها. اخترتها لأنها وحيدته والأقرب لقلبه.

تأكدتُ من الرصاصات داخل سلاحي والشمس تلوّح بآخر أشعتها خلف المدى البعيد.. كانت أنغام "كسارة البندق" تتصاعد من جهاز التسجيل في المركبة.. لطالما ساعدني تشايكوفسكي على عبور المراحل الكبرى في حياتي .

تقدمت منها بهدوء تام وأنزلت زجاج المركبة، انتبهت لحركتي وطالعتني بعينين مسترخيتين وقبل أن تستوعب الموقف كانت رصاصتي تخترق قلبها، تبعتها بأخرى حتى أتأكد من موتها ثم ابتعدتُ مسرعاً بمركبتي وأنغام تشايكوفسكي تمد القلب بشعور في منتهى السعادة والاطمئنان.